فصل: من لطائف القشيري في السورة الكريمة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في السورة الكريمة:

قال عليه الرحمة:
سورة عبس:
قوله جل ذكره: بسم الله الرحمن الرحيم.
(بسم الله) اسم كريم بسط للمؤمنين بساط جوده، اسم عزيز انسد على الأولين والآخرين طريق وجوده.. وأتى بذلك ولا حد له؟ من الذي يدركه بالزمان والزمان خلقه؟ ومن الذي يحسبه في المكان والمكان فعله؟ ومن الذي يعرفه إلا وبه يعرفه؟ ومن الذي يذكره إلا وبه يذكره.
{عبس وَتولى (1)}
نَزَلَت في ابن أمِّ مكتوم، وكان ضريراً.. أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم وكان عنده العباس بن عبد المطلب وأمية بن خلف الجُمْحي- يرجو الرسول صلى الله عليه وسلم إيمانَهما، فَكَرِه أَنْ يَقْطَعَ حديثه معهما، فأعرض عن ابن أمِّ مكتوم، وعبس وَجْهُه، فأنزل اللَّهُ هذه الآية.
وجاء في التفسير: أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم خرج على أثرِه، وأَمَرَ بطلبِه، وكان بعد ذلك يَبَرُّه ويُكْرِمُه، فاستخلفه على المدينة مرتين.
وجاء في التفسير: أنه صلى الله عليه وسلم لم يَعبس- بعد هذا- في وجهِ فقيرٍ قط، ولم يُعْرِضْ عنه.
ويقال: في الخطاب لُطْفٌ... وهو أنه لم يواجهه بل قاله على الكناية.
{وَمَا يُدْرِيكَ لعله يَزَّكَّى}.
أي يتذكر بما يتعلم منك أو.
{أَوْ يذكر فتنفعه الذِّكْرَى}.
قوله جلّ ذكره: {أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى فَأَنتَ لَهُ تصدى وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى}.
أمَّا مَنْ استغنى عن نَفْسِه فإنه استغنى عن الله.
ويقال: استغنى بما له فأنت له تصدى، أي تُقْبِلُ عليه بوجهك.
{وَمَا عَلَيْكَ} فأنت لا تُؤَخَذُ بألا يتزكى هو فإنما عليكَ البلاغ.
{وَأَمَّا مَن جَاءَكَ يَسْعَى}.
لطَلَبِ العِلْم، ويخشى الله فأنت عنه تتلهى، وتتشاغل... وهذا كله مِنْ قبيلِ العتاب معه لأَجْلِ الفقراء.
{كَلآَّ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاءَ ذَكَرَهُ}.
القرآن تذكرة؛ فَمَنْ شاء الله أن يذكره ذَكُرَه، ومَنْ شاء الله ألا يذكره لم يذكره؛ أي بذلك جرى القضاءُ، فلا يكون إلا ما شاء اللَّهُ.
ويقال: الكلامُ على جهة التهديد؛ ومعناه: فَمَنْ أراد أن يذكره فليذكره، ومن شاء ألا يذكره فلا يذكره! كقوله: {فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29].
وقال سبحانه: {ذَكَرَهُ} ولم يقل (ذَكَرَها) لأنه أراد به القرآن.
قوله جل ذكره: {فِى صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ}.
أي صحف إبراهيم وموسى وما قبل ذلك، وفي اللوح المحفوظ.
{مَّرْفُعَةٍ مُّطَهَّرَةِ}.
مرفوعة في القَدْر والرتبة، مطهرة من التناقض والكذب.
{بِأَيْدِى سَفَرَةٍ}.
أي: الملائكة الكَتَبة.
{كِرَامِ بَرَرَةٍ}.
كرام عند الله بَرَرَة.
قوله جلّ ذكره: {قُتِلَ الإِنسَانُ مَآ أَكْفَرَهُ}.
لُعِنَ الإنسان ما أعظم كُفْره!..
{مِنْ أَىِّ شيء خَلَقَهُ مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ}.
خَلَقَه وصَوَّرَه وقَدَّره أطواراً: من نطفةٍ، ثم عَلَقَةٍ، ثم طوراً بعد طور.
قوله جلّ ذكره: {ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ}.
يَسّرَ عليه السبيلَ في الخير والشرِّ، وألهمه كيف التصرُّف.
ويقال: يَسَّرَ عليه الخروجَ من بطن أُمِّه يخرج أولاً رأسه منكوساً.
{ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ}.
أي: جعل له قَبْراً لئلا تفترِسَه السِّباعُ والطيورُ ولئلا يفتضح.
{ثُمَّ إذَا شَاءَ أَنشَرَهُ}.
بَعَثَه من قبره.
{كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ مَآ أَمَرَهُ}.
أي: عصى وخالَفَ ما أُمِرَ به.
ويقال: لم يقضِ الله له ما أمره به، ولو قضى عليه وله ما أمره به لَمَا عصاه.
قوله جلّ ذكره: {فَلْيَنْظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طعامه أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبّاً ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقّاً فَأَنبَتّنَا فِيهَا حبًّا وعِنَباً وَقَضْباً وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً وَحَدَآئِقَ غُلْبَاً}.
في الإشارة: صَبَبْنا ماءَ الرحمةِ على القلوب القاسية فَلانَتْ للتوبة، وصببنا ماءَ التعريف على القلوب فنبتت أزهارُ التوحيد وأنوارُ التجريد.
{وَقَضْباً} أي القَتّ.
{وَحَدَآئِقَ غُلْباً} متكاثفةً غلاظاً.
{وَفَاكِهَةً وَأَبّاً}.
الفاكهة: جمع الفواكه، و{وَأَبّاً}: المرعى.
{مَّتَاعاً لَكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ...}.
{فَإِذَا جَاءَتِ الصَّآخَّةُ} أي: القيامة؛ فيومئذٍ يفر المرء من أخيه، وأمه وأبيه، ثم بيَّن ما سبب ذلك فقال.
{لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يومئِذٍ شَأْنٌ يغنيه}.
لا يتفرَّغ إلى ذاك، ولا ذاك إلى هذه. كذلك قالوا: الاستقامةُ أَنْ تشهدَ الوقتَ قيامةً، فما من وليٍّ ولا عارفٍ إلاَّ وهو- اليوم- بقلبه يَفِرُّ من أخيه وأمه وأبيه، وصاحبته وبنيه.
فالعارفُ مع الخَلْق ولكنه يُفَارقهم بقلبه- قالوا:
فلقد جعلتك في الفؤادِ مُحَدِّثي ** وأَبَحْتُ جسمي مَنْ أراد جلوسي

قوله جلّ ذكره: {وُجُوهٌ يومئِذٍ مُّسْفِرَةٌ ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ}.
وسببُ استبشارهم مختلفٌ؛ فمنهم مَنْ استبشاره لوصوله إلى جنَّته، ومنهم لوصوله إلى الحور العين من حظيته... ومنهم ومنهم، وبعضهم لأنه نظر إِلى ربِّه فرآه.
{وَوُجُوهٌ يومئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرةٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرةُ}.
وهي غَبَرةُ الفُسَّاق.
{تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ}. وهي ذُلُّ الحجاب. اهـ.

.من فوائد ابن العربي في السورة الكريمة:

قال رحمه الله:
{عبس وَتولى} فِيهَا مَسْأَلَتَانِ:
المسألة الْأُولَى:
لَا خِلَافَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ الْأَعْمَى، وَقَدْ رُوِيَ فِي الصَّحِيحِ قال مَالِكٌ: إنَّ هِشَامَ بْنَ عُرْوَةَ حَدَّثَهُ عَنْ عُرْوَةَ أَنَّهُ قال: نَزَلَتْ {عبس وَتولى} فِي ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ جَاءَ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَجَعَلَ يَقول: يَا مُحَمَّدُ؛ عَلِّمْنِي مِمَّا عَلَّمَك اللَّهُ، وَعِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ مِنْ عُظَمَاءِ الْمُشْرِكِينَ، فَجَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُعْرِضُ عَنْهُ وَيُقْبِلُ على الْآخَرِ، وَيَقول: «يَا فُلَانُ، هَلْ تَرَى بِمَا أَقول بَأْسًا»، فَيَقول: لَا، مَا أَرَى بِمَا تَقول بَأْسًا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {عبس وَتولى}.
قالتْ الْمَالِكِيَّةُ مِنْ علمائنا: اسْمُ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ عَمْرٌو، وَيُقال عَبْدُ اللَّهِ، وَالرَّجُلُ مِنْ عُظَمَاءِ الْمُشْرِكِينَ هُوَ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، وَيُكَنَّى أَبَا عَبْدِ شَمْسٍ خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ مُسْنَدًا قال: أَنْبَأَنَا سَعِيدُ بْنُ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْأُمَوِيُّ، حَدَّثَنِي أَبِي قال: هَذَا مَا عَرَضْنَا على هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قالتْ: نَزَلَتْ {عبس وَتولى} فَذَكَرَ مِثْلَهُ.
المسألة الثَّانِيَةُ:
هَذَا مِثْلُ قولهِ: {وَلَا تَطْرُدْ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ}.
وَمَعْنَاهُ نَحْوُهُ حَيْثُمَا وَقَعَ، وَأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم إنَّمَا قَصَدَ تَأَلُّفَ الرَّجُلِ الطَّارِئِ ثِقَةً بِمَا كَانَ فِي قَلْبِ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ مِنْ الْإِيمَانِ، كَمَا قال: {إنِّي لَأُعْطِي الرَّجُلَ وَغَيْرُهُ أَحَبُّ إلى مِنْهُ مَخَافَةَ أَنْ يَكُبَّهُ اللَّهُ فِي النَّارِ على وَجْهِهِ}.
وَأَمَّا قول علمائنا: إنَّهُ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ.
وَقال آخَرُونَ: إنَّهُ أُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ، فَهَذَا كُلُّهُ بَاطِلٌ وَجَهْلٌ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ الَّذِينَ لَمْ يَتَحَقَّقُوا الدِّينَ؛ وَذَلِكَ أَنَّ أُمَيَّةَ وَالْوَلِيدَ كَانَا بِمَكَّةَ، وَابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ كَانَ بِالْمَدِينَةِ، مَا حَضَرَ مَعَهُمَا وَلَا حَضَرَا مَعَهُ، وَكَانَ مَوْتُهُمَا كَافِرَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الْهِجْرَةِ وَالْآخَرُ فِي بَدْرٍ وَلَمْ يَقْصِدْ قَطُّ أُمَيَّةُ الْمَدِينَةَ، وَلَا حَضَرَ عِنْدَهُ مُفْرَدًا وَلَا مَعَ أَحَدٍ.
الْآيَةُ الثَّانِيَةُ قوله تعالى: {فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ}.
وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهَا فِي سُورَةِ الْوَاقِعَةِ عِنْدَ ذِكْرِنَا لِقولهِ تعالى: {إنَّهُ لَقرآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ لَا يَمَسُّهُ إلَّا الْمُطَهَّرُونَ} فَلْيَنْظُرْ هُنَالِكَ فِيهِ مَنْ احْتَاجَ إلَيْهِ هَاهُنَا.
وَقَدْ قال وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: إنَّهُ أَرَادَ بِقولهِ: {بِأَيْدِي سَفَرَةٍ كِرَامٍ بَرَرَةٍ} يَعْنِي أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم قال الْقَاضِي: لَقَدْ كَانَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ كِرَامًا بَرَرَةً، وَلَكِنْ لَيْسُوا بِمُرَادِينَ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَلَا قَارَبُوا الْمُرَادِينَ بِهَا؛ بَلْ هِيَ لَفْظَةٌ مَخْصُوصَةٌ بِالْمَلَائِكَةِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ، وَلَا يُشَارِكُهُمْ فِيهَا سِوَاهُمْ، وَلَا يَدْخُلُ مَعَهُمْ فِي مُتَنَاوَلِهَا غَيْرُهُمْ.
رُوِيَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: «مَثَلُ الَّذِي يَقرأ القرآن، وَهُوَ حَافِظٌ لَهُ مَعَ السَّفَرَةِ الْكِرَامِ الْبَرَرَةِ، وَمَثَلُ الَّذِي يَقرأ القرآن وَهُوَ يَتَعَاهَدُهُ وَهُوَ عَلَيْهِ شَدِيدٌ فَلَهُ أَجْرَانِ».
وَقولهُ: {أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا} قَدْ تَقَدَّمَ الْقول فِي أَنَّهَا نَزَلَتْ وَأَمْثَالُهَا فِي مَعْرِضِ الِامْتِنَانِ، وَتَحَقَّقَ الْقول فِيهَا. اهـ.

.من فوائد ابن تيمية في السورة الكريمة:

وَلِجَمَاعَةِ مِنْ الْفُضَلَاءِ كَلَامٌ فِي قوله تعالى: {يوم يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ} {وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ} لِمَ ابْتَدَأَ بِالْأَخِ وَمِنْ عَادَة الْعَرَبِ أَنْ يُبْدَأَ بِالْأَهَمِّ؟
فَلَمَّا سُئِلْت عَنْ هَذَا قُلْت: إنَّ الِابْتِدَاءَ يَكُونُ فِي كُلِّ مَقَامٍ بِمَا يُنَاسِبُهُ فَتَارَةً يَقْتَضِي الِابْتِدَاءَ بِالْأَعلى وَتَارَةً بِالْأَدْنَى وَهُنَا الْمُنَاسَبَةُ تَقْتَضِي الِابْتِدَاءَ بِالْأَدْنَى لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بَيَانُ فِرَارِهِ عَنْ أَقَارِبِهِ مُفَصَّلًا شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ فَلَوْ ذَكَرَ الْأَقْرَبَ أَوَّلًا لَمْ يَكُنْ فِي ذِكْرِ الْأَبْعَدِ فَائِدَةٌ طَائِلَةٌ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّهُ إذَا فَرَّ مِنْ الْأَقْرَبِ فَرَّ مِنْ الْأَبْعَدِ وَلَمَا حَصَلَ لِلْمُسْتَمِعِ اسْتِشْعَارُ الشِّدَّةِ مُفَصَّلَةً فَابْتُدِئَ بِنَفْيِ الْأَبْعَدِ مُنْتَقِلًا مِنْهُ إلَى الْأَقْرَبِ فَقِيلَ أَوَّلًا:
{يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ} فَعُلِمَ أَنَّ ثَمَّ شِدَّةً تُوجِبُ ذَلِكَ. وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَفِرَّ مِنْ غَيْرِهِ وَيَجُوزُ أَنْ لَا يَفِرَّ. فَقِيلَ {وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ} فَعُلِمَ أَنَّ الشِّدَّةَ أَكْبَرُ مِنْ ذَلِكَ بِحَيْثُ تُوجِبُ الْفِرَارَ مِنْ الْأَبَوَيْنِ. ثُمَّ قِيلَ {وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ} فَعُلِمَ أَنَّهَا طَامَّةٌ بِحَيْثُ تُوجِبُ الْفِرَارَ مِمَّا لَا يَفِرُّ مِنْهُمْ إلَّا فِي غَايَةِ الشِّدَّةِ وَهِيَ الزَّوْجَةُ وَالْبَنُونَ وَلَفْظُ صَاحِبَتِهِ أَحْسَنُ مِنْ زَوْجَتِهِ.
قلت: فَهَذَا فِي الْخَبَرِ وَنَظِيرُهُ فِي الْأَمْرِ قولهُ: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} وَقولهُ: {فَكَفَّارَتُهُ إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ} فَإِنَّ الْوَاجِبَاتِ نَوْعَانِ على التَّرْتِيبِ. فَيُقَدَّمُ فِيهِ الْأَعلى فَالْأَعلى كَمَا فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ وَالْقَتْلِ وَالْيَمِينِ وَعلى التَّخْيِيرِ فَابْتَدَأَ فِيهَا بِأَخَفِّهَا لِيُبَيِّنَ أَنَّهُ كَانَ مُجْزِيًا لَا نَقْصَ فِيهِ وَإِنْ ذَكَرَ الْأَعلى بَعْدَهُ لِلتَّرْغِيبِ فِيهِ لَا لِلْإِيجَابِ فَانْتِقال الْقَلْبِ مِنْ الْعَمَلِ الْأَدْنَى إلَى الْأَعلى أَوْلَى مِنْ أَنْ يُؤْمَرَ بِالْأَعلى ثُمَّ يذكر لَهُ الْأَدْنَى فَيَزْدَرِيَهُ الْقَلْبُ. وَلِهَذَا لَمَّا ذَكَرَ فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ الْأَعلى ابْتِدَاءً كَانَ لَنَا فِي تَرْتِيبِهِ رِوَايَتَانِ وَإِذَا نَصَرْنَا الْمَشْهُورَ قُلْنَا قَدَّمَ فِيهِ الْأَعلى لِأَنَّ الْأَدْنَى بِقُدْرَتِهِ فِي قولهِ: {أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا}. وَلِهَذَا لَمَّا ابْتَدَأَ بِالْأَثْقَلِ فِي حُدُودِ الْمُحَارِبِينَ لَمْ يَكُنْ عِنْدَنَا على التَّخْيِيرِ وَلَا على التَّرْتِيبِ؛ بَلْ بِحَسَبِ الْجَرَائِمِ وَلَيْسَ فِي لَفْظِ الْآيَةِ مَا يَقْتَضِي التَّخْيِيرَ كَمَا يَتَوَهَّمُهُ طَائِفَةٌ مِنْ النَّاسِ فَإِنَّهُ لَمْ يَقُلْ الْوَاجِبُ أَوْ الْجَزَاءُ هَذَا أَوْ هَذَا أَوْ هَذَا كَمَا قال: فَكَفَّارَتُهُ هَذَا أَوْ هَذَا أَوْ هَذَا وَكَمَا قال: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} وَإِنَّمَا قال: إنَّمَا جَزَاؤُهُمْ هَذَا أَوْ هَذَا أَوْ هَذَا فَالْكَلَامُ فِيهِ نَفْيٌ وَإِثْبَاتٌ: تَقْدِيرُهُ: مَا جَزَاؤُهُمْ إلَّا أَحَدُ الثَّلَاثَةِ كَمَا قال فِي آيَةِ الصَّدَقَاتِ: {إنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفقراء وَالْمَسَاكِينِ} أَيْ مَا هِيَ إلَّا لِهَؤُلَاءِ. وَقَدْ تَقَرَّرَ أَنَّ مِثْلَ هَذَا الْخِطَابِ يُثْبِتُ لِلْمَذْكُورِ مَا نَفَاهُ عَنْ غَيْرِهِ فَلَمَّا نَفَى الْجَوَازَ لِغَيْرِ الْأَصْنَافِ أَثْبَتَ الْجَوَازَ لَا الْوُجُوبَ وَلَا الِاسْتِحْقَاقَ كَمَا فَهِمَهُ مَنْ اعْتَقَدَ وُجُوبَ الِاسْتِيعَابِ مِنْ ظَاهِرِ الْخِطَابِ وَهُنَا نَفَى أَنْ يَكُونَ مَا سِوَى أَحَدِ هَذِهِ جَزَاءً فَأَثْبَتَ أَنْ يَكُونَ جَزَاءُ الْمُحَارِبِ أَحَدَ هَذِهِ الْعُقُوبَاتِ. وَالْمُحَارِبُونَ جملة لَيْسُوا وَاحِدًا فَظَهَرَ الْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ. الْآيَةِ وَبَيْنَ الْآيَتَيْنِ مِنْ وُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ الْمُحَارِبِينَ ذُكِرُوا بِاسْمِ الْجَمْعِ وَمُقَابَلَةُ الْجَمْعِ بِالْجَمْعِ تَقْتَضِي تَوْزِيعَ الْأَفْرَادِ على الْأَفْرَادِ فَلَوْ قِيلَ: جَزَاءُ الْمُعْتَدِينَ إمَّا الْقَتْلُ وَإِمَّا الْقَطْعُ وَإِمَّا الْجَلْدُ وَإِمَّا الصَّلْبُ وَإِمَّا الْحَبْسُ: لَمْ يَقْتَضِ هَذَا التَّخْيِيرَ فِي كُلِّ مُعْتَدٍ بَيْنَ هَذِهِ الْعُقُوبَاتِ بَلْ تَوْزِيعُ الْعُقُوبَاتِ على أَنْوَاعِهِمْ كَذَلِكَ إذَا قِيلَ: جَزَاءُ الْمُحَارِبِينَ كَذَا أَوْ كَذَا أَوْ كَذَا أَوْ كَذَا بِخِلَافِ قولهِ: {فَكَفَّارَتُهُ} وَقولهُ: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ على سَفَرٍ فَعِدَّةٌ}
الثَّانِي: أَنَّ الْمَقْصُودَ نَفْيُ جَوَازِ مَا سِوَى ذَلِكَ وَإِثْبَاتُ ضِدِّهِ وَهِيَ جَوَازُ الْمَذْكُورِ فِي الْجملة وَذَلِكَ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُخَيَّرًا أَوْ مُعَيَّنًا بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَكُنْ الْمَقْصُودُ إلَّا مُجَرَّدَ الْإِثْبَاتِ؛ فَإِنَّ إثْبَاتَهُ بِصِيغَةِ التَّخْيِيرِ يَدُلُّ عَلَيْهِ. وَهَذَا مَعْرُوفٌ فِي مَوَادِّ الْإِثْبَاتِ الْمَحْضِ أَوْ مَوَادِّ الْحَصْرِ كَمَا قال صلى الله عليه وسلم لِلْخَصْمِ الْمُدَّعِي: {شَاهِدَاك أَوْ يَمِينُهُ} وَفِي لَفْظٍ: {لَيْسَ لَك مِنْهُ إلَّا ذَلِكَ} فَحَصَرَ طَرِيقَ الْحَقِّ وَلَيْسَ الْغَرَضُ التَّخْيِيرَ. وَكَذَلِكَ يُقال: الْوَاجِبُ فِي الْقَتْلِ الْقِصَاصُ أَوْ الدِّيَةُ وَلَا تَصِحُّ الصَّلَاةُ إلَّا بِوُضُوءِ أَوْ تَيَمُّمٍ ولابد يوم الْجُمُعَةِ مِنْ الظُّهْرِ أَوْ الْجُمُعَةِ وَلَا يُتْرَكُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ إلَّا مُسْلِمٌ أَوْ مُعَاهَدٌ وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ إذَا كَانَ بَعْضُ الْمَقْصُودِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ نَفْسَ مَا سِوَى الْأُمُورِ الْمَذْكُورَةِ كَانَ مَدْلُولُهُ إثْبَاتًا يَقْتَضِي النَّفْيَ وَهُوَ الْوُجُودُ الْمُشْتَرَكُ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ وَالْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَهَا أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُعَيَّنًا أَوْ مُخَيَّرًا وَأَمَّا إذَا أُثْبِتَتْ ابْتِدَاءً فَلَوْ لَمْ تَكُنْ مُخَيَّرَةً بَلْ مُعَيَّنَةً وَلَمْ يَدُلَّ اللَّفْظُ عَلَيْهِ كَانَ تَلْبِيسًا. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَهُوَ لَطِيفٌ أَنْ يُقال: مَفْهُومُ أَوْ إثْبَاتُ التَّقْسِيمِ الْمُطْلَقِ كَمَا قُلْنَا: إنَّ الْوَاوَ مَفْهُومُهَا التَّشْرِيكُ الْمُطْلَقُ بَيْنَ الْمعطوف وَالْمعطوف عَلَيْهِ فَأَمَّا التَّرْتِيبُ: فَلَا يَنْفِيهِ وَلَا يُثْبِتُهُ؛ إذْ الدَّالُّ على مُجَرَّدِ الْمُشْتَرِكِ لَا يَدُلُّ على الْمُمَيَّزِ فَكَذَلِكَ أَوْ هِيَ لِلتَّقْسِيمِ الْمُطْلَقِ وَهُوَ ثُبُوتُ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ مُطْلَقًا وَذَلِكَ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَثْبُتَ على سَبِيلِ التَّخْيِيرِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْآخَرِ. أَوْ على سَبِيلِ التَّرْتِيبِ أَوْ على سَبِيلِ التَّوْزِيعِ وَهُوَ ثُبُوتُ هَذَا فِي حَالٍ وَهَذَا فِي حَالٍ كَمَا أَنَّهُمْ قالوا: هِيَ فِي الطَّلَبِ يُرَادُ بِهَا الْإِبَاحَةُ تَارَةً كَقولهِمْ: تَعَلَّمْ النَّحْوَ أَوْ الْفِقْهَ وَالتَّخْيِيرُ أُخْرَى. كَقولهِمْ: كُلْ السُّمْكَ أَوْ اللَّبَنَ وَأَرَادُوا بِالْإِبَاحَةِ جَوَازَ الْجَمْعِ. وَهِيَ فِي نَفْسِهَا تُثْبِتُ الْقَدْرَ الْمُشْتَرَكَ وَهُوَ أَحَدُ الِاثْنَيْنِ. إمَّا مَعَ إبَاحَةِ الْآخَرِ أَوْ حَظْرِهِ فَلَا تَدُلُّ عَلَيْهِ بِنَفْسِهَا بَلْ مِنْ جِهَةِ الْمَادَّةِ الْخَاصَّةِ؛ وَلِهَذَا جَمَعْنَا بَيْنَ الْقَتْلِ وَالصَّلْبِ وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقَطْعِ على رِوَايَةٍ فَإِنَّ أَوْ لَا تَنْفِي ذَلِكَ فَإِذَا كَانَ حَرْفٌ أَوْ يَدُلُّ على مُجَرَّدِ إثْبَاتِ أَحَدِ الْمَذْكُورَاتِ فَهُنَا مَسْلَكَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُقال: إذَا كَانَتْ فِي مَادَّةِ الْإِيجَابِ أَفَادَتْ التَّخْيِيرَ وَإِذَا كَانَتْ فِي مَادَّةِ الْجَوَازِ أَفَادَتْ الْقَدْرَ الْمُشْتَرِكَ كَمَا هُوَ مَشْهُورٌ عَنْ النُّحَاةِ الْمُتَكَلِّمِينَ فِي مَعَانِي الْحُرُوفِ أَنَّهُمْ يَقولونَ: يُرَادُ بِهَا تَارَةً الْإِذْنَ فِي أَحَدِ الشَّيْئَيْنِ مَعَ حَظْرِ الْآخَرِ وَتَارَةً الْإِذْنَ فِي أَحَدِهِمَا وَإِنْ ضَمَّ إلَيْهِ الْآخَرَ كَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ الْأَمْثِلَةِ. وَحِينَئِذٍ فَهَذِهِ الْآيَةُ فِي مَادَّةِ الْجَوَازِ لِأَنَّ الْمَنْفِيَّ هُوَ الْجَوَازُ. فَيَكُونُ الْمُثْبَتُ هُوَ الْجَوَازَ كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي آيَةِ الصَّدَقَاتِ بِخِلَافِ آيَةِ الْكَفَّارَةِ؛ فَإِنَّهَا فِي مَادَّةِ الْوُجُوبِ. الْمَسْلَكُ الثَّانِي: أَنْ يُقال: لَا فَرْقَ بَيْنَ الْمَادَّتَيْنِ الْجَوَازِ وَالْوُجُوبِ؛ بَلْ وَفِي الْوُجُوبِ قَدْ يُبَاحُ الْجَمْعُ. كَمَا لَوْ كَفَرَ بِالْجَمِيعِ مَعَ الْغِنَى؛ لَكِنْ يُقال: دَلَالَتُهَا فِي الْجَمِيعِ على التَّفْرِيقِ الْمُطْلَقِ ضِدُّ دَلَالَةِ الْوَاوِ. ثُمَّ إنْ لَمْ يَدُلَّ دَلِيلٌ على تَرْتِيبٍ وَلَا تَعْيِينٍ: جَازِ فِعْلُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْخِصَالِ لِعَدَمِ مَا يَدُلُّ على التَّعْيِينِ وَالتَّرْتِيبِ لَا لِلدَّلِيلِ الْمُنَافِي لِذَلِكَ كَمَا فِي قولهِ: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} فَإِنَّ الرَّقَبَةَ الْمُعَيَّنَةَ يَجْزِي عِتْقُهَا؛ كَثُبُوتِ الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ فِيهَا وَعَدَمِ مَا يُوجِبُ الْمُعَيَّنَ لَا لِدَلِيلِ دَلَّ على نَفْسِ الْمُعَيَّنِ؛ وَإِنْ دَلَّ دَلِيلٌ على التَّعْيِينِ وَالتَّرْتِيبِ: قُلْنَا بِهِ كَمَا نَقول بِتَقْيِيدِ الْمُطْلَقِ وَلَيْسَ تَقْيِيدُ الْمُطْلَقِ رَفْعًا لِظَاهِرِ اللَّفْظِ بَلْ ضَمُّ حُكْمٍ آخَرَ إلَيْهِ وَهَذَا مَسْلَكٌ حَسَنٌ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَنَظَائِرِهِ؛ فَإِنَّهُ يَجِبُ الْفَرْقُ بَيْنَ مَا يُثْبِتُهُ اللَّفْظُ وَبَيْنَ مَا يَنْفِيهِ فَإِذَا قُلْنَا فِي الْمُحَارِبِينَ بِالتَّعْيِينِ لِدَلِيلِ خَبَرِيٍّ أَوْ قِيَاسِيٍّ كَانَ كَالْقول بِالتَّرْتِيبِ فِي الْوُضُوءِ وَالْإِيمَانِ فِي الرَّقَبَةِ وَنَحْوِهِمَا. اهـ.